للفنّانة الإماراتيّة سارة العقروبي رؤية فريدة تشكّلت من تجاربها المتنوّعة وتنقّلاتها بين ثقافات وبلدان مختلفة. ينعكس هذا الغنى في أعمالها الفنيّة التي تتأرجح بين التجريد والوضوح، وبين التعبير الشخصيّ والانخراط في القضايا الاجتماعيّة. لا تُقيّد نفسها بقالبٍ واحد، بل تترك للفنّ حرّية اتخاذ الشكل الذي تفرضه اللحظة، سواء كان لوحة، فكرة مكتوبة، أم صوتاً. ترى في المُمارسة الفنيّة مساحة مفتوحة للفضول الدائم والحفر المستمر في أعماق الذات.
1- كشخص متعدّد الأدوار بين الفنّ والتعليم والبحث، كيف تحافظين على هويّتكِ المتفرّدة وسط هذا التنوّع؟
لا أرى أنّ الأمر يتعلّق بالحفاظ على هويّة متفرّدة وسط هذا التنوّع، لأنّ الفنّ بالنسبة لي لا ينحصر في شكلٍ أو دورٍ محدّد. هو يتجلّى في كلّ ما أفعله، سواء كنت أكتب، أتحدّث، أقدّم بودكاست، أو أرسم لوحة. الشخص الذي يقوم بكلّ هذه الأفعال هو نفسه، ما يتغيّر فقط هو الوسيط أو الشكل الذي يتّخذه التعبير الفنيّ. الفرادة، برأيي، لا تكمن في الناتج النهائيّ، بل في الشغف والفضول الذي يدفعني دائماً إلى استكشاف طرق جديدة للإبداع.
2-كيف أثّرت تجاربكِ المتعدّدة في دول مختلفة على رؤيتكِ للفنّ والثقافة في العالم العربيّ؟
مع مرور السنوات، شعرتُ أنّ الغرب لديه الكثير ليتعلّمه من عالمنا، خاصّة في مجالي الفنّ والثقافة. ورغم أنّني أمضيت معظم حياتي في الغرب، إلّا أنّني أؤمن بأنّنا كعرب علينا أن نمنح أنفسنا مزيداً من التقدير، وأن نفتخر بهويتنا وبما نقدّمه، بدلاً من السعي الدائم وراء التصديق الغربيّ.
3-ما الذي يفتقر إليه المشهد الفنيّ في العالم العربيّ اليوم، وما الدور الذي يُمكن أن يلعبه الفنانون لسد هذه الفجوة؟
الأمر يعتمد على أيّ "عالم عربيّ" نتحدّث، إذ تختلف منطقة المشرق عن منطقة الخليج في كيفيّة ممارسة الفنّ وتداوله. بشكلٍ عام، هناك فصل في الخليج بين الفنّ كأداة للدفاع عن القضايا الاجتماعيّة وبين الفنّ كوسيلة للتعبير الجماليّ البصريّ. فالعديد من الفنانين يُبقون مواقفهم الشخصيّة بعيدة عن القضايا الاجتماعيّة الراهنة، ويتعاملون مع الفنّ باعتباره تجربة بصريّة، لا أداة لمساءلة المجتمع أو كسر الأعراف.


4- هل تبحثين في أعمالكِ عن فتح حوار بصريّ مع المتلقّي، أم ترين أنّ الغموض جزء أساسيّ من تجربتكِ الفنيّة؟
ممارستي الفنيّة لها وجهان مختلفان. الأول هو إنتاج أعمال تجريديّة أتركُ فيها للمتلقّي مساحة حرّة للعب والتفسير، حيث أبتعد عن أيّ شيء ملموس وأعتمد على المُشاهد ليُكوّن رأيه الخاصّ. أمّا الجانب الثاني، فهو مباشر وواضح، حيث لا أترك مجالاً للتأويل. سواء كنت أكتب أو أبحث أو أقدّم بودكاست، أكون دقيقة وواضحة جداً فيما أقول. أجد نفسي دائماً في حالة شدّ وجذب، وأتنقّل بين التعبير الفنّي الواضح والتجريد.
5-هل مررتِ بلحظة شعرتِ فيها أنّكِ فقدتِ الاتصال بالإبداع؟ وكيف استعدتِه؟
أشعر أحياناً بانفصال عن الإبداع، ويأتي هذا الشعور على شكل موجات، حسب المرحلة التي أمرّ بها. الآن، أجد نفسي أقرب إلى البحث والبودكاست منه إلى الرسم أو التعبير البصريّ. لكن أعلم جيّداً أنّني سأعود في وقت ما إلى الرسم، ولا أرى في ذلك أيّ خطأ. أؤمن أنّ الفنان في حالة سعي دائم، ويغذّي فضوله باستمرار، لذلك من الطبيعيّ أن يتبدّل شكل الإبداع من وقتٍ إلى آخر.
6-هل تؤمنين بضرورة أن يمتلك الفنّان أدوات فكريّة تحليليّة أم أنّ الحسّ وحده يكفي؟
ليس من الضروريّ أن يكون للفنّان ارتباطاً بالمؤسّسات كي يُعتبر فنّاناً. الأمر في جوهره يتعلّق بنيّة الفنان وكيفيّة ممارسة فنّه. قد يأتي من منظومة تعليميّة تتطلّب الانضباط والصرامة، وقد يكون عصاميّاً لم يخضع لتعليم أكاديمي، ويعبّر عن أفكاره بطرق غير تقليديّة. قد يكون الفنّان نتاج تجارب وخلفيّات متعدّدة ومختلفة.


7-هل لديكِ طقوس أو روتين معيّن أثناء العمل على لوحة جديدة؟
لا أعتمد طقوساً محدّدة خلال عملية الرسم التي تمرّ بمراحل طويلة. قد تستغرق اللوحة من 4 إلى 6 أشهر لإنجازها، نظراً لضرورة الانتظار حتى يجفّ الطلاء بين طبقة وأخرى. غالباً، لا أنطلق من فكرة واضحة؛ بل أبدأ بالحفر على سطح القماش على أمل أن تكشف العمليّة عن صورة ما. في البداية يكون الحفر عفويّاً، ثم يصبح مدروساً ومقصوداً أكثر مع تشكُّل ملامح اللوحة.
8-قلتِ إنّك تعملين باستمرار ولا وقت فراغ لديكِ، فما هو النشاط الذي تتمنين أن تمارسيه لو منحتِ نفسكِ أسبوعاً من الراحة بعيداً عن العمل؟
أؤمنُ بأنّ الانشغال الدائم ليس أمراً صحيّاً، بل وسيلة للهروب من مواجهة الشعور بعدم الاستحقاق. فحين ينهمك الإنسان بالمشاريع والأهداف، قد يغفل عن نفسه وعن حاجاته الأعمق. لذلك، لو منحت نفسي أسبوعاً من الراحة، لاخترتُ ببساطة ألا أفعل شيئاً. فقط أن أكون، من دون مهام أو أفكار متسارعة. الجلوس في سكون "اللاشيء" هو امتياز بحدّ ذاته.

9-هل هناك كتاب أو فيلم ترك فيكِ أثراً عميقاً وأعاد تشكيل طريقة تفكيركِ أو مقاربتكِ للفنّ؟
هناك العديد من الأفلام التي أثّرت فيّ وأعادت تشكيل رؤيتي. من بينها: فيلم Amélie Poulain، وPride and Prejudice، وأفلام Wes Anderson. انجذب دائماً إلى الأفلام ذات التصوير السينمائيّ الفريد والسرد القصصيّ المميّز. درستُ الإخراج سابقاً، وكنت دائماً مهتمّة بتوظيف الألوان في الصورة لتعزيز التكوين البصريّ، وكأنّ عدسة الكاميرا تتحوّل إلى لوحة فنيّة.
10-ماذا تقولين لنسختكِ الصغيرة، تلك الفتاة التي تنقّلت بين بلجيكا وإيطاليا والإمارات؟
يُقال إنّ الإنسان يصبح في نضجه الشخص الذي افتقده في طفولته. أيّ أنّكِ تصبحين صوتاً لمَن لم يكن له صوت، أو حضناً دافئاً كنتِ بحاجة إليه، أو داعماً لغرابتكِ واختلافكِ. أشعرُ أنّني أصبحت ذلك الشخص لمن هم أصغر منّي سناً. لذا، ما سأقوله لنسختي الصغيرة هو: لا تقلقي، لأنّك ستصبحين الشخص الذي تحتاجين إليه.

