أعشق الفنّ، الهندسة، المتاحف، أعشق كلّ ما يجعلني أعيش في تاريخ وروح البلد الذي أزوره. وجنيف، مدينة السلام، جعلتني أتوه في غنى ماضيها المثير فيما أستمتع بأوقات حاضرها الرائعة. هنا، في قلب أوروبا وتحديداً في فندق Beau-Rivage التاريخيّ، رماني القدر لألتقي بمدينةٍ تنبض بالتاريخ وتنطق بلغة الترف. حالما وطأت أرضها، علمت بأنّ ما يميّزها هو أكثر من صناعة الشوكولا والساعات الفاخرة، هو أكثر من القمم البيضاء والحدائق التي تفترشها الأعشاب والأزهار، بل هو هذا السلام الداخليّ الذي يجعلكِ تشعرين وكأنّكِ في بلدكِ، هذا الاستقبال الحارّ الذي يحثّكِ على البقاء فيها لأطول وقتٍ ممكن وهذا الدفء الذي ينتابكِ وكأنّكِ في أحضان أرضكِ. غريبةٌ هي جنيف السويسريّة، تجذبكِ إليها، فتعلّقكِ بها، بتاريخها، بمعالمها، بهندستها، بنظامها، بنافورة مياهها، برقيّها، بكلّ ما فيها...
لعلّ النافورة في بحيرة جنيف أو Lake Léman هي أوّل ما يلفت نظركِ، تظهر لكِ من كلّ زاوية، هي من بين الأطول في العالم، إذْ تصل إلى حواليّ 140م! هي نبض المدينة، نصبت في البحيرة للمرّة الأولى في العام 1886، وذلك بهدف السيطرة على ضغط المياه الزائد في مصنع La Coulouvrenière. اليوم، باتت النافورة رمز قوّة جنيف وحيويّتها.
50 هو عدد الحدائق العامّة أو المنتزهات التي تكسو مدينة جنيف وتحيط ببحيرتها الأكبر في أوروبا الغربيّة.
قمّة Mont-Salève، منها تمتّعين ناظريكِ بمشهد المدينة البانوراميّ، تصلين إليها بالتلفريك. إنْ كنتِ من عشّاق الرياضة، الفرصة أمامكِ لتمارسي المشي، القفز بالمظلّات، تسلّق الجبال وحتى التزلّج، لا سيّما في فصل الشتاء.
الحياة المرموقة عنوانٌ كُتب على جبين جنيف، فمن هنا ولدت أشهر دور الساعات الفاخرة، مثل Vacheron Constantin وPatek Philippe وChopard وغيرها الكثير. بوتيكات المجوهرات أيضاً تنتشر، كدور الساعات الفاخرة في شارع Rue du Rhône الشهير، إضافةً إلى متاجر دور الأزياء العالميّة، مثل Gucci وCartier وDior وHermès وغيرها. الخيارات أمامكِ لا تعدّ ولا تحصى، فجنيف بالفعل جنّةٌ من الترف، تستحقّين اختبارها.
الشوكولا، اسمٌ بمفرده كفيلٌ ليذوّبكِ ويغرقكِ في بحور لذّاته. فمن منّا لا تعشق طعمه وتتشوّق لتناوله كلّ يوم، كلّ ساعة، كلّ دقيقة...؟ جنيف هي، بامتياز مدينة عاشقات الشوكولا.
لا عجب أن تضمّ جنيف 40 متحفاً، تكرّم التاريخ، الفنون الجميلة، العلوم والتكنولوجيا.
الجزء الأجمل خلال رحلتي كان الإبحار في البحيرة على متن سفينة ضخمة للتعرّف على مدينة جنيف عن كثب. أكثر ما لفتني هو فيلا زوجة القائد الفرنسيّ Napoléon Bonaparte، ليتني أقيم فيها لليلةٍ واحدة فقط!
مطعم فندق Parc Des Eaux-Vives سحرني من النظرة الأولى، فهو أشبه بفيلا تطلّ على البحيرة، يكسو اللّون الأخضر حديقتها الشاسعة وتزيّنها الأزهار الملوّنة. يقع المطعم في مبنى يعود إلى القرن الثامن عشر. تلذّذي بحلوى تيراميسو الفراولة، فطعمه لا يقاوم!
جولةٌ في دار الساعات السويسريّة الفاخرة F.P Journe، جعلتني أعشق هذا العالم المعقّد، الجميل والمترف في الوقت نفسه. التقيتُ بمؤسّس الدار François-Paul Journe، الرجل الطموح والخلّاق الذي لم يملّ من الإجابة على أسئلتي. في هذه الدار التي تأسّست في العام 1999، الشعار المتّبع هو Invenit et Fecit، أي "اخترعها ونفّذها". هنا، العدد لا يهمّ بل النوعيّة، فساعةٌ واحدة تطلق كلّ عام، تتميّز بالدقّة والجودة، والأهمّ هو أنّها مصنوعة بكلّ تفاصيلها على يد حرفيّين لا يملّون ولا يكّلون، بل يستمتعون بما يقومون به. هكذا أخبرتني ابتساماتهم...
إقامتي في فندق Beau-Rivage تجربةٌ من العمر! هنا، عشت داخل صفحات التاريخ وامتزج عالمي بالعصريّة، خلطةٌ سحريّة لن يفهمها إلّا مَن زار الفندق العريق. موقع بانوراميّ في وسط جنيف، مقابل البحيرة وبالقرب من شارع Rue du Rhône، كلّ زاويةٍ فيه تخبر قصّة مثيرة للاهتمام، تنطق بلغة الغموض والروايات...
الشغف، كلمةٌ فهمت معناها الحقيقيّ حين تعرّفت على مدير الفندق Jacques Mayer، وهو من الجيل الخامس الذي تعاقب على الإدارة، بعد أن أسّس الفندقJean-Jacques Mayer في العام 1865. استقبلنا بحرارة ولم يملّ من إخبارنا، بالتفاصيل، عن تاريخ الفندق وما يميّزه. في كلّ زاوية، ترقد بعض الأشياء القديمة التي ما زالت صامدة منذ التأسيس، من المكتب الرئيسيّ إلى التحف، حتى الكتاب الذي كان يدوّن عليه أسماء الزائرين!
من كافّة أقطار العالم أتوا إلى هنا، معظمهم من الطبقة الأرستقراطيّة ليتمتّعوا بترف الإقامة وبسحر سويسرا. بعضهم طبع ذكرياتٍ لا تُنسى، حفرت في التاريخ، فعلى سبيل المثال، في أحد الأجنحة الفاخرة، تمّ توقيع وثيقة قيام جمهورية تشيكوسلوفاكيا رسميّاً في العام 1918، وهنا أيضاً، تحديداً أمام بوّابة الفندق، قتلت أمبراطورة النمسا Elizabeth المعروفة بـSisi، في العام 1898، واللائحة تستمرّ... للمشاهير حصّة أيضاً في زيارة الفندق، مثل Angelina Jolie، Karl Lagerfeld وغيرهما الكثير.
يضمّ فندق Beau-Rivage 95 غرفة، منها 15 جناحاً فخماً، 6 صالات للاستقبال، مركزاً للأعمال، ومطاعم محليّة وعالميّة. بعض الأجنحة مسمّاة على اسم الشخصيّة المشهورة التي أقامت فيها، مثل جناح Wagner تكريماً للموسيقيّ Richard Wagner من القرن التاسع عشر، جناح Patiala تكريماً لمهراجا باتيالا، وجناح Sissi تكريماً لأمبراطورة النمسا. مؤخّراً، قامت إدارة الفندق بترميم الطابق العلويّ من الفندق، ليشكّل أجنحةً Duplex تتمنّين لو تبقين فيها إلى الأبد.
حان الوقت لتجربة تذوّقٍ لم تعهديها من قبل! الأطباق التايلنديّة في مطعم Patara ما زالت عالقة في ذهني، بفضل طعمها اللّذيذ، وتوابلها الزكيّة. أمّا مطعم Chat-Botté وأطباق الشيف Dominique Gauthier الحائز على نجمة Michelin، فتشكّل حكاية أخرى... هنا، اختبرت تجربة Chef’s Table، أمامي الشيف ومساعدوه يعملون كخليّة النحل، يقدّمون لي أشهى الأطباق التي التهمتها بنظري قبل فمي. من المقبّلات إلى الأطباق الرئيسيّة والحلويات، تمنّيت لو لم أخرج من هذا العالم أبداً...