الأوامر أو الإملاءات، بدلاً من أن تطلعنا على الموضة وأسرار الجمال، تأسرنا بمجموعة من القيود المكلفة بقدر ما هي ملزمة. فماذا إذاً عن الإرادة الحرّة؟ كلمة "إملاءات" هي ترجمة لكلمة Diktat في اللّغة الألمانيّة التي استُخدمت لوصف معاهدة فرساي في العام 1919، وهي تدلّ على شرطٍ مفروض غير قابل للتفاوض...
اليوم تتبع الإملاءات الاتّجاه الذي يفرض مثلاً ارتداء اللّون الأزرق أو الأرجوانيّ، أو يسائلنا عن شيخوخة الركبتين أو النظام الغذائيّ الجديد للتنحيف من هوليوود. تنتشر هذه الاتّجاهات بسرعة، فتتغلغل في العقول وتدغدغها كأغنية تنساب أنغامها إلى الأفكار. إملاءاتٌ جديدة... مجموعة أوامر جديدة... مسائل تهدف بالأساس إلى الارتقاء بنا (نحافة، نضارة، نعومة، أنوثة...) ولكنّها تأتي بهذه الطريقة لتكبّلنا في النهاية.
لماذا نتأثّر بالرسائل المجتمعيّة؟
على جدران المدن، على رفوف المتاجر، على شبكة الإنترنت وحتى في التطبيقات الإلكترونيّة، نتلقّى كمّاً هائلاً من الأوامر حتى من دون أن ننتبه لذلك: "كوني أنحف، أجمل، أكثر شباباً، أكثر أنوثة، أو مفتولة العضلات وغيرها..."، وهناك رسائل تُنقل من الأمّ إلى ابنتها (والعكس صحيح) كعبءٍ ثقيل: "الجمال جيّد، العالم للنحيفات، نهاية الشباب هي نهاية الأنوثة". لا يمكننا التهرّب من هذه الملاحظات ولكنّنا لا نتأثّر بها جميعنا بالطريقة نفسها، لأنّ الأمر يتعلّق بنرجسيّتنا ومدى ثقتنا بنفسنا. تعتبر المحللّة النفسيّة Christine Arbisio أنّ "الصورة التي نكوّنها عن ذاتنا هي انعكاسٌ للصورة التي ترتسم في عينيّ الآخرين: أوّلاً في عينيّ الأهل، ثمّ المحيط". ويختلف مدى الاهتمام بصورة الذات من شخصٍ إلى آخر. فمَن كانت منذ صغرها "ملكة صغيرة" حظيت بتقديرٍ كبير على مستوى الشكل على حساب الصفات الأخلاقيّة والروحيّة، تصبح امرأةً تترقّب كلّ الإملاءات التي من المفترض أن تزيدها جمالاً. فهل تهتمّ الأم بابنتها كإنسانٍ أو كلعبة؟ إنّ الفتيات اللّواتي ينشأن في محيطٍ يهتمّ بالمظاهر ولكن ليس أكثر من إتقان انتعال حذاء التزلج، لا يتأثّرن بصيحات الموضة الشائعة. وتضيف Sophie Cheval، خبيرة في علم النفس السريريّ: "بالطبع نرغب جميعنا في أن نكون محبوبات ومحطّ أنظار الجميع، ولكن لحسن الحظ، يمكننا أن نختار بين كلّ الرسائل المجتمعيّة تلك التي نودّ سماعها. فيمكن مثلاً تأييد أو معارضة ما يحفّزنا على تغطية الشعر الأبيض، وبهذه الطريقة يبطل مفعول الأوامر إذا لم نجارِها". وإذا كان محيطنا العائليّ مثلاً يعتبر أنّه على المرأة الأنيقة تلوين شعرها، نرى اهتمامنا يتّجه بلا شكّ نحو هذا الأمر أكثر ممّا يهتمّ به غيرنا. لذا، علينا تخطّي الماضي للسيطرة على معظم الإملاءات.
كيف يمكن استعادة الإرادة الحرّة؟
عندما لا نملك أيّ خيار ونكتفي باتّباع الإملاءات، نضيّع الوقت والمال ونخسر المزاج الجيّد. فالاعتقاد مثلاً بأنّ الحصول على جسمٍ نحيف يجعلكِ تشعرين بالسعادة، هو خدعةٌ حقيقيّة، لأنّكِ إذا لم تكوني صاحبة جسمٍ نحيل بطبيعته، فلن تصلي أبداً إلى بلوغ الشكل الذي ترينه في المجلّات. وإذا كنتِ تبحثين عن الشباب الدائم، اعلمي أنّه يمكنكِ اختبار الشيخوخة مع الحفاظ على الجمال والمتعة، أمّا الرغبة في إيقاف الزمن، فهي مضيعة للوقت.
الإملاءات تصبح سجناً عندما نعجز عن تخطّيها والتحرّر منها، فتتحوّل إلى طاغية على أيّ شيءٍ آخر في حياتنا. فلمَ نجهد أنفسنا بذلك؟ تقول Christine Arbisio: "إنّ تعلّم تقدير الأشياء نسبةً إلى أشياءٍ أخرى، هو الخطوة الأولى للتخلّص من هاجس ما. فعندما ننظر من حولنا نرى بوضوح أنّ سحر المرء لا ينحصر بالجسم الجميل أو الذراعين المشدودتين. نحن نعلم ذلك، ولكنّنا ننسى تطبيق هذه القاعدة مع أنفسنا. والبقاء تحت تأثير نظرة الحبيب أو الزملاء أو الأصدقاء لنا، ينمّ عن ضعف نرجسيّ شديد. هذا ما علينا إدراكه، أيْ فهم نقاط ضعفنا وليس التفنّن في الامتثال للمتطلّبات التي يفرضها المجتمع". في علاقات الحبّ والصداقة، ما يجذب الآخرين إلينا هي شخصيّتنا والانسجام الذي نبديه وليس قدرتنا على مواكبة الاتّجاهات السائدة. والواقع أنّه يمكن تحويل التحدّي إلى لعبةٍ ممتعة. وكما تقول Sophie Cheval: "الجمال متعة! هو متعة الاهتمام بالذات، تجربة المستحضرات، وضع الماكياج، تغيير تسريحة الشعر أو الأسلوب بحسب المزاج. إنّه أيضاً متعة عدم القيام بأيّ شيء ممّا سبق. وبهذه الطريقة تصبح الإملاءات مجرّد اقتراحاتٍ بسيطة قد نتبعها أو لا. تماماً كما في المتجر: إمّا أنْ نشتري وإمّا لا. المهمّ هو الحفاظ على التحكّم بالقرارات والتصرّف بإرادةٍ حرّة.
كيف يمكن التخلّص من الوضع اللاإراديّ؟
لا شيء يساعدنا على التخلّص من هاجسٍ معيّن بقدر إيجاد اهتماماتٍ أخرى. لنودّع مسيرة البحث عن البشرة الأنعم ومحاربة التجاعيد، ففي حين نعتقد أنّنا نعالج مشكلةً ما، ربّما نقع في مشكلةٍ أخرى. تقول Christine Arbisio: "كأنّنا ننقل شيئاً من مكانٍ ونضعه في مكانٍ آخر. وهذا يُظهر أمراً واحداً: الاهتمام الكبير بنظرة الآخرين إلينا". ابحثي عن نشاطٍ جديد تهتمّين به شرط ألّا يكون في إطار المظهر الخارجيّ، بل في مجال الرياضة أو الثقافة، الجمعيّات أو الإبداعات. كلّ ذلك يساعدنا في الابتعاد عن هاجسنا والتمتّع بروحٍ قادرة على الانتقاد والتحليل. وتختم خبيرة علم النفس Sophie Cheval: "يمكننا التخلّص من الوضع اللاإراديّ والحاجة الزائفة إلى ما "يجب" القيام به، لإعادة الاتّصال برغبات الذات وليس بالإملاءات التي تفرضها علينا الإعلانات المستبدّة". ولكن بعض الحالات تجعلنا نتأثّر أكثر بهذه الإعلانات ونشعر أنّ الاهتمام بالمظهر هو مخرجٌ جيّد للتغلّب على القلق الذي يصيبنا. وفي هذه الأوقات الحرجة يزداد استهلاكنا لمستحضرات التجميل، الثياب والأكسسوارات. مثلاً، بعد الولادة تقلق المرأة بشأن صحّتها أكثر مما تهتمّ بشكل بطنها الذي لم يعد مشدوداً... ابقي شخصاً ذا إرادةٍ حرّة ولا تشكّلي جزءاً من الجمهور المستهدف.